فلسطين
حسين إبراهيم
الثلاثاء 7 تشرين اول 2025
قد تجد أنظمة التطبيع فرصة في ما جرى لتعزيز شبكة أمانها (من الويب)
في حساب الربح والخسارة، يصعب الحديث عن رابح من الأحداث التي جرت ما بعد 7 أكتوبر 2023، باستثناء الولايات المتحدة وإسرائيل. أمّا على الجانب العربي، فكانت السنتان المذكورتان كارثيتَين، إذ وجد العرب دولهم وقد بدأت تتمزّق فعلياً، ولم تعد نهاية الحدود المعروفة لها مجرّد نظرية مؤامرة غائرة. قد تكون الدول العربية التي اختارت التطبيع مع إسرائيل وُضعت في موقف حرج، نتيجة عجزها عن إغاثة الفلسطينيين في قطاع غزة أثناء تعرّضهم لأسوأ مذبحة في التاريخ الحديث تُرتكب على الهواء مباشرة.
لكن الإحراج بالنسبة إلى تلك الأنظمة لا يعني أنها تعتبر نفسها خاسرة، اللّهم إلّا من حيث تراجع شعبية أنظمتها، التي لم تَرها أصلاً يوماً العامل الأساسي لتثبيت حكمها، كونها تعتاش على مزيج من الرشوة والقمع في الداخل، والحماية المدفوعة الثمن من الخارج. ولذا، فإن علامات الهزيمة لا تظهر على محيّا زعماء الدول المذكورة، الذين، على العكس من ذلك، ربّما يجدون أن ما حصل وفّر فرصة لهم لحياة جديدة مديدة، ولا سيما أن المقاومة التي كانت مكاسبها في السابق أكثر ما يحرجهم في رهانهم على السلام مع العدو، تلقّت ضربات قاسية في أكثر من بلد.
مع ذلك، وحدها الدول التي قد يطاولها تهديد من احتمال تهجير الفلسطينيين إليها، توجّست مما قد يصيب التوازنات التي يقوم عليها الحكم فيها. لكن بما أن خطة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، وضعت التهجير على الرفّ، حتى لو إلى حين، فلم يعد لديها مشكلة، إذا جرى ترتيب الأوضاع بما يؤدي إلى القضاء على المقاومة. فذلك كان على الدوام هدفاً مشتركاً لإسرائيل وعرب السلام، بل قد يكون أكثر إلحاحاً للأخيرين ممّا هو للأولى، باعتبار أن المقاومة تأكل من الصحن نفسه الذي تأكل منه الأنظمة، وصارت بعد الأحداث، تحظى بشعبية واسعة في العالم العربي، بما يجعلها في نظر الأنظمة خطراً وجودياً محيقاً.
قد تكون محاولة التلاعب بحدود بعض الدول العربية، ولا سيما المحيطة بفلسطين المحتلة، مصدر إزعاج لأنظمة التطبيع، باعتبار أنها قد تفتح باب التعديلات الحدودية في كلّ مكان، لكن الأنظمة البعيدة من حدود فلسطين تعتبر الضمانات الأميركية كافية للحفاظ على سلامة الدول التي تحكمها، وحمايتها من المطالبات والخلافات البينية أو الداخلية.
وباستثناء مصر والأردن، ما تزال دول التطبيع، ولا سيما في الخليج ترى الخطر الآتي من المطامع الإسرائيلية على سلامة حدودها، افتراضياً وبعيداً. أمّا الخطر الحدودي والوجودي الكبير على دول الخليج، فهو التلاعب بالبنى القبلية العابرة للحدود، والتي قامت أصلاً على الرعاية الغربية الكفيلة باستمرارها ما دامت تدور في الفلك الغربي؛ لكن هذا الباب مغلق، أقلّه راهناً.
توفّر الضمانات الأميركية لقطر نموذجاً لما ستطالب به دول الخليج الأخرى
ولعلّ أبلغ تعبير عن نظرة عرب السلام إلى ما جرى في العامين الماضيين، جاء على لسان السناتور الأميركي، ليندسي غراهام، الذي لا يقلّ تطرفاً عن إيتمار بن غفير، حين قال قبل أيام متوجّهاً إلى كيان العدو: «أيها الإسرائيليون، القادة في السعودية والإمارات يشاركونكم هدف تدمير الإسلام الراديكالي، وهم عازمون على تدمير حماس وفق ما تطمحون إليه أنتم. العرب سيغيّرون المناهج في غزة كما يفعلون في بلادهم لمواجهة هذا النوع من الإسلام».
ما فعلته أنظمة التطبيع في العامَين الماضيَين، كافٍ لتبيان نظرتها إلى مكامن الخطر على وجودها. فمنذ البداية، اختارت الوقوف إلى جانب إسرائيل سراً، والانضمام إلى جوقة إدانة مجازرها علناً، وهو ما تجلّى بوضوح في تسخيرها أراضيها لتوفير خطّ إمداد للعدو، بديلاً لميناء إيلات الذي نجح اليمنيون في إغلاقه.
قد تجد أنظمة التطبيع فرصة في ما جرى لتعزيز شبكة أمانها عبر إقامة نظام إقليمي تضْمنه الولايات المتحدة وتشارك فيه إسرائيل، ويجري التحضير له بالفعل عبر إزالة العقبات التي تعترض طريقه في دول كلبنان وسوريا - بمشاركة تركيا التي تسعى إلى نيل نصيبها من المكاسب -. ولعلّ هذا هو ما مهّد للاجتماع العربي - الإسلامي مع ترامب في نيويورك، الذي فتح الطريق لطرح خطة غزة وتكثيف الضغط العربي والإسلامي على «حماس» للموافقة عليها.
فذلك الاجتماع كان إيذاناً ببداية تنفيذ المشروع الذي ستحلّ فيه هذه الأنظمة مكان المقاومة في غزة، لإنهاء المهمة التي بدأتها إسرائيل. ورغم ما تَقدّم، تبقى تمايزات وخلافات إزاء تلك العملية؛ إذ ليست نظرة حلفاء الولايات المتحدة إلى الحلول واحدة، وهو ما يعود على الأرجح إلى أن واشنطن نفسها تعتمد مسارات مختلفة في الوقت عينه. ففي حين كانت بعض الدول تساعد إسرائيل خلال الحرب، سواء بالاعتراضات الجوية للمقذوفات المتّجهة نحوها، أو السماح بمرور الإمدادات إليها، تحمّلت قطر ومصر عبء إدارة مفاوضات إنهاء الحرب.
والثمن الذي دفعته الدوحة عبر الغارات الإسرائيلية عليها، يعكس بالضبط حساسية موقعها ومهمتها، وهو ما استدعى منحها ضمانات أميركية مكتوبة بعدم تعرّضها للاعتداء مجدداً، وإن كانت تقارير إسرائيلية تشير إلى أن الضمانات المذكورة مردّها الحقيقي، الاستثمارات القطرية الهائلة في الولايات المتحدة، ومنها الهدايا الشخصية مثل الطائرة الرئاسية، وليس الغارات.
في كل الأحوال، توفّر الضمانات لقطر، نموذجاً لما ستطالب به دول الخليج الأخرى باعتبار أنها تؤدي جميعها أدواراً في إطار تحالفها مع أميركا. لكن ذلك قد لا يحصل قبل إنجاز تسويات إضافية؛ فالسعودية والإمارات تحتاجان إلى علاقات أفضل مع إيران وإنهاء الحرب اليمنية حتى يصبح ممكناً للولايات المتحدة إعطاؤهما ضمانات من دون المخاطرة بالتورّط في حروب لا تريدها، ولا سيما أن الخليج، بخلاف إسرائيل، لا يكفيه التسليح، وإنما يحتاج إلى مشاركة أميركية مباشرة تتطلّب وضع جنود على الأرض.
في النتيجة، ثمة مشهد كامل يرتسم على أنقاض قطاع غزة، سيستثمر فيه عرب السلام الدماء الفلسطينية لتحقيق مكاسب تخصّ أنظمتهم، ولا تقدّم للفلسطينيين أي أمل في تحقيق الحدّ الأدنى من مطالبهم بعد عشرات السنين من الكفاح.